المسيّرات: فوضى لن تستثني أحدًا

متابعة - الجمهورية نيوز

المسيّرات: فوضى لن تستثني أحدًا

 

 

دعونا نقرأ المشهد من زاوية أخرى، بعدما شهدت مدينة بورتسودان خلال الأيام الماضية تطورًا خطيرًا وغير مسبوق، تمثل في سلسلة هجمات بطائرات مسيّرة استراتيجية استهدفت مواقع عسكرية ومنشآت مدنية، من بينها المطار، ومستودعات الوقود، ونُزُل للبعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية، والقاعدة الجوية، والميناء. ما يعكس تحولًا نوعيًا في طبيعة الحرب السودانية الجارية منذ أكثر من عامين.

الهجمات التي نفذتها ميليشيا الدعم السريع، تُظهر بوضوح أن السودان دخل مرحلة جديدة من الصراع تتداخل فيها التكنولوجيا، والسياسة، والاستخبارات، والتدخل الإقليمي، في مشهد معقد لا يمكن فهمه أو التعامل معه بمعزل عن السياق الأشمل للحرب. في هذا المقال، نناقش هذه التطورات من زاوية أخرى، خاصة أن المسيّرات باتت سلاحًا لا تملكه إلا الدول.

هذه التحولات تشير إلى وجود غرف عمليات متقدمة تدير المعركة عن بُعد، تتحكم في أدواتها التقنية والتكتيكية، مما يعزز من فرضية وجود دعم لوجستي واستخباري خارجي. هذا الدعم يوفّر للميليشيا الوسائل والتقنيات التي تضمن لها القدرة على تنفيذ عمليات نوعية تتجاوز قدراتها الذاتية المفترضة. هذا النمط يعرف بـ”حرب الظل بالوكالة”، حيث تُستخدم الميليشيا كوكيل لتنفيذ مشروع إقليمي يهدف إلى إعادة ترتيب المشهد السوداني وفق رؤية جديدة بدأت منذ ما قبل سقوط نظام البشير في 2019.

أكدت الحكومة السودانية، وزارة الخارجية، والقيادة العسكرية أن الهجمات المسيّرة تمثل “عدوانًا كاملًا” تقف وراءه دولة إقليمية، وهو ما دعمته إفادات الجيش بأن الطائرات كانت تُدار من خارج البلاد. هذا التصعيد يُحوّل الصراع في السودان إلى مواجهة إقليمية معقدة، تتداخل فيها الحسابات الجيوسياسية والمصالح العابرة للحدود، وتستهدف الضغط على الجيش للذهاب إلى مفاوضات تؤدي إلى تسوية مفروضة، تمكّن أطرافًا خارجية من التأثير على مفاصل الدولة.

يشكّل تزويد جهات غير حكومية بطائرات انتحارية متطورة تهديدًا يتجاوز السودان، ليطال أمن المنطقة بأكملها. إذ يُحوّل الأجواء الإقليمية إلى ساحة فوضى محتملة. استهداف المنشآت المدنية مثل المطارات والموانئ يكشف عن نية لتعطيل الدولة، واستخفاف بالقانون الدولي الذي يحظر ضرب البنية التحتية المدنية. فالدولة التي تسمح لنفسها بتزويد فاعلين غير حكوميين بهذه الطائرات المتطورة، تزرع أداة قابلة للانقلاب عليها.

ما حدث في بورتسودان لا يمكن عزله عن الإقليم. الهجمات المسيّرة لم تكن عدوانًا على السودان فحسب، بل كانت إنذارًا تعدى حدود السودان إلى عواصم الجوار والمنطقة بأكملها. هذه التطورات أثارت ردود فعل واسعة من السعودية، قطر، الكويت، مصر، إيران، تركيا، إضافة إلى الاتحاد الإفريقي، ومجلس التعاون الخليجي، والجامعة العربية. جميعهم عبّروا عن قلقهم من خطورة هذه التحولات، واتفقوا على رفض تحويل السودان إلى ساحة حرب بالوكالة تهدد استقرار المنطقة.

هذا الإجماع الإقليمي والدولي يعكس إدراكًا مشتركًا بأن استمرار الحرب، مع دخول أدوات غير تقليدية مثل المسيّرات المدعومة خارجيًا، سيخلق بيئة أمنية هشّة. هذه البيئة لن تؤثر في الخرطوم وبورتسودان وحدهما، بل ستطال البحر الأحمر، القرن الإفريقي، وربما أمن الملاحة العالمية والحدود السيادية لدول الجوار.

التجربة القاسية التي مرت بها بورتسودان كشفت عن استجابة دفاعية متأخرة وأظهرت أن الدفاع الجوي وحده لا يكفي. فما لم يُسبق بتعاون استخباري يستطيع كشف الهجمات قبل وقوعها، فإن الخطر سيظل قائمًا. فقد استطاع السودان في مراحل سابقة، عبر أدوات استخباراتية، تجنب كوارث حقيقية من خلال استباق الضربة وتفكيك الخطر بتنسيق مع أجهزة استخبارات في المنطقة. المعركة اليوم لا تُكسب فقط في الجو، بل في العقول وغرف التحليل، وفي شبكات الرصد التي تعرف متى وأين وكيف تُحبط المخطط قبل اكتماله.

في هذا السياق، تبرز أهمية القراءة الشاملة للأحداث. ما يحدث اليوم هو محاولة لهدم النظام السياسي والاجتماعي السوداني من الداخل، عبر ضرب مفاصل الدولة، ترويع السكان، وإرباك الإدارة، وتحويل الدولة إلى فاشلة. من يتعامل مع هذه الأحداث كتصعيد عسكري فقط، يفوّت عليه الفهم الصحيح لمسار الحرب.

لا يمكن مواجهة هذه التحديات الأمنية إلا بعقل استراتيجي يدرك الترابط بين الظواهر وتطوراتها. فخطر المسيّرات لا يقتصر على السودان فقط، بل قد يصل إلى جماعات معارضة تهدد أمن الإقليم. لذا، من الضروري وجود ردع دولي ورؤية متكاملة تحصّن الدول من الداخل. فالمسيّرات التي أصبحت متاحة لغير الحكومات قد تصل إلى أيدي جماعات إرهابية.

من #وجه_الحقيقة، نرى أن أحداث بورتسودان تؤكد ضرورة التفكير في الأمن بمنهج شامل، يربط بين الأدوات والغايات والمصالح المشتركة. تهديد المسيّرات هو تهديد عابر للحدود. ما جرى في بورتسودان يعد بداية لنمط جديد من الحروب، يتطلب إعادة بناء مفاهيم الأمن القومي وأدوات الدولة. تجاهل هذا النوع من الحروب قد يفتح الباب أمام فوضى إقليمية محتملة، لا تستثني أحدًا.

 

أقرأ أيضًا
أكتب تعليقك هنا