حروب المصطلحات (الدولة الريعية)

 حروب المصطلحات (الدولة الريعية)

بقلم: د. هاشم غرايبه

انتشر مصطلح (الدولة الريعية) حديثا، ويتكلم به عادة أتباع الليبرالية الجديدة، آخر صور الرأسمالية، والتي هي دائمة التبدل والتحور وفق الظروف وتبدلات المصالح.

يوجه هؤلاء النقد الى الدول العربية والعالم الثالث عموما، بأنها تعتمد الريعية في نهجها السياسي، ويطالبونها بالعدول عنه، فماذا يعنون بذلك؟.

التسمية جاءت من الريع، وهو صافي الدخل المتحقق من بيع منتج، والنظام الريعي هو ذلك الذي يعتمد في اقتصاده على مصدر محدد (عادة ما يكون ثروة طبيعية مثل النفط والغاز والفوسفات)، ودائما ما يلجأ الى الشراكة مع جهات أجنبية لاستخراجها وانتاجها وتسويقها.

في علم الإقتصاد لا يعتبر ذلك أساسا لقاعدة اقتصادية سليمة قادرة على الصمود أمام المخاطر الداخلية مثل التضخم ، والركود ، وتذبذب قيمة العملة الوطني، والخارجية المتمثلة بتوفر الأسواق وثبات التسويق في أحوال الأزمات السياسية والإقتصادية العالمية، وبقاء الطلب على السلعة، والصمود أمام المنافسين.

جميع دول العالم الثالث محرومة من مجرد المنافسة مع الدول المتقدمة صناعيا وتجاريا، بسب الفارق التقني الهائل، وحرمانها من استيراده، ولا سبيل أمامها في تحقيق مصدر الدخل إلا ببيع ما تنتجه من موارد طبيعية مستخرجة من باطن الأرض، وهي منتجات لا غنى عنها للعالم الأول لأنها أولية لصناعاته.

يطالبون هذه الدول بإصلاحات اقتصادية بنيوية نظريا، لكنهم عمليا يفعلون ما يحول بينها وبين ذلك، يكتفون بإجبارها على إجراءات التضييق على معيشة مواطنيها متهمين إياها بأنها تدللهم وتساعدهم بدعم أسعار السلع الأساسية التي يصعب على نصف المواطنين الحصول عليها بالسعر الحر.

لكن هل يفعلوا ذلك عندما يتعلق الأمر باقتصادهم؟، إنهم يقولون مالا يفعلون، ويأمرون أنظمة العالم الثالث بالتخلي عن واجباتها تجاه شعوبها، فيما هم يدللون مواطنيهم بتوفير أرقى الخدمات الصحية والإجتماعية والتعليمية، ولا يحملونهم كلف بناها التحتية العالية الجودة.

وتراهم يدعمون مزارعيهم بإنشاء البنى التحتية من سدود وقنوات وإصلاح الأراضي الزراعية، كما يكفلون تسويق منتجاتهم وبأسعار مدعومة، وتتحمل الدولة الفارق لتضمن تصديرها بأسعار رخيصة منافسة، فيما يضعون العراقيل أمام الدول النامية لإنشاء تلك المرافق ولا يقبلون تمويلها بالقروض ويمنعون الشركات الكبرى من تنفيذها.

كما يفرضون اتفاقيات تجارية تكفل إزالة أية عراقيل أمام انسيابية بضائعهم، ويفرضون ضرائب جمركية حمائية لمنتجاتهم فيما يمنعون أية دولة نامية من حماية مصنوعاتها الوطنية، ومن يفرض منها رسوما جمركية يعاقب.

سيقول لك الليبراليون أن هذه مجرد تخيلات وأوهام لتبرير القصور والتخلف في مجتمعاتنا والتقصير في الجد لدى مواطنينا، لكن ما يدحض كلامهم الوقائع، وسأذكر بعض الأمثلة:

يعتبر اقتصاد الجزائر مثالا حيا على النظام الريعي، فتصدير النفط والغاز هما مصدر الواردات.

عندما كانت الدولة تتولاه مباشرة كان المردود عاليا، هنالك فائض نقدي، مما جعل الجزائر من الأقطار الغنية المانحة، بدأت الإختراقات للنظام السياسي بإفساد النخبة العسكرية الحاكمة، بتسليمهم ملف الإقتصاد، وتشجيع الإستثمارات الخاصة للعسكر، وحدث الشيء ذاته في باقي الدول الإسلامية الكبيرة: مثل الباكستان ومصر وتركيا بهدف إفساد النخبة العسكرية، وربط مصالحها بترسيخ العلمانية، والوقوف بوجه التحول الإسلامي، في خلال سنوات قليلة أصبحت جميع هذه الدول فاشلة بسبب الإلتزام بعدم بناء قاعدة اقتصادية منتجة، والإكتفاء بالريع المتدفق من النفط والغاز، بطبيعة الحال تم الإجهاز على اقتصاد الدولة بالقروض فأصبحت مدينة بعد أن كانت مانحة.

لا ضرورة للتوسع في الأمثلة، فكل دولة عربية سواء كانت غنية أم فقيرة تشكو من المصيبة ذاتها، لكنى سأذكر حالة دول افريقية ريعية أيضا تعتمد على تصدير الذهب والألماس، مع ذلك تم افقارها بطريقة خبيثة، إذ كانت معتادة على خبز الذرة التي تنتجها أرضهم، فأرسلوا لها الدقيق وأقاموا مخابز آلية تبرعاً، وبعد أن تعود الناس على خبز القمح، تركوا زراعة الذرة، فقطعوا عنها القمح وأصبحت تنتظر الصدقات الغذائية.

الرأسمالية عنكبوت وحشي لا يشبع، شبكتها (القروض الربوية) التي لا تفلت من يقع فيها، المناداة بالتخلي عن النظام الريعي مجرد كلام معسول… فلا يمكن للضحية أن تخرج إلا جثة هامدة.

أقرأ أيضًا
أكتب تعليقك هنا